
يمثل التعليم حجر الزاوية للتقدم الاجتماعي والاقتصادي لأي أمة. وبالنسبة للهند، التي تطمح لتحقيق رؤيتها “الهند المتقدمة 2047” (Viksit Bharat @2047)، فإن وجود نظام تعليمي مدرسي قوي وعادل وفعال هو أمر لا غنى عنه. إلا أن “المسح المعياري الشامل للتعليم” لعام 2025 كشف عن اتجاهات مقلقة تهدد المنظومة التعليمية في البلاد.
انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية
كشفت نتائج المسح أن 27% من الطلاب الملتحقين بالمدارس في جميع أنحاء الهند يعتمدون على الدروس الخصوصية. وترتفع هذه النسبة في المناطق الحضرية لتصل إلى 30.7% مقابل 25.5% في المناطق الريفية. أما في المرحلة الثانوية العليا (الصفين 11 و12)، فإن النسبة تقفز إلى 37%، وهو ما يعكس اعتماد الطلاب الكبير على هذه المراكز التحضيرية لاجتياز امتحانات الثانوية العامة واختبارات القبول التنافسية للجامعات مثل “JEE” و”NEET”.
هذا الاعتماد المتزايد يمثل عبئًا ماليًا كبيرًا على الأسر؛ حيث تنفق الأسر في المناطق الحضرية حوالي 4000 روبية سنويًا على الدروس الخصوصية. وفي المناطق الريفية، على الرغم من انخفاض المتوسط، فإنه يرتفع بشكل حاد ليصل إلى حوالي 10000 روبية لطلاب المرحلة الثانوية العليا.
تراجع الثقة في التعليم الحكومي
في موازاة صعود قطاع التعليم الخاص، شهد التعليم الحكومي تراجعًا ملحوظًا. فقد انخفضت نسبة الالتحاق بالمدارس الحكومية من 74% في السبعينيات إلى ما يتراوح بين 51% و56% في عام 2025. ويفضل أولياء الأمور بشكل متزايد المدارس الخاصة على الرغم من تكلفتها المرتفعة التي تبلغ في المتوسط 25000 روبية سنويًا، مقارنة بـ 2863 روبية فقط في المدارس الحكومية.
هذا التحول يعود إلى تراجع الثقة في المدارس الحكومية بسبب مشاكل تتعلق بالبنية التحتية، وجودة المعلمين، وضعف مخرجات التعلم. وقد أدى هذا الوضع إلى خلق نظام تعليمي موازٍ أو ما يُعرف بـ”اقتصاد الظل التعليمي”، الذي ينمو على حساب القصور المتصور في المدارس الرسمية.
يمثل هذا الواقع ضغطًا نفسيًا هائلاً على الطلاب، الذين يجدون أنفسهم عالقين في جدول يومي قاسٍ بين الحضور في المدرسة، ثم الذهاب إلى مراكز الدروس الخصوصية، وقضاء ما يتبقى من وقت في أداء الواجبات المنزلية. وقد أدت هذه الضغوط في مراكز الإعداد المكثف للامتحانات، مثل مدينة “كوتا” بولاية “راجستان”، إلى وقوع حالات انتحار بين الطلاب، مما أثار جدلاً واسعًا حول الصحة النفسية للشباب.
فجوة الحوكمة والتحديات التنظيمية
تعمل مراكز الدروس الخصوصية في ظل رقابة تنظيمية ضعيفة، مما سمح بانتشارها كالفطر مع القليل من المساءلة. وفي هذا السياق المعقد، تمتد التحديات التنظيمية لتشمل الجوانب المالية والقانونية للمؤسسات التعليمية الخاصة.
وقد سلط حكم قضائي حديث الضوء على هذه التعقيدات، حيث قضت محكمة الاستئناف للجمارك والمكوس وضرائب الخدمات (CESTAT) لصالح “جمعية سكاي لارك للرعاية التعليمية”، مؤكدة أن الخدمات التعليمية المقدمة وفقًا لمناهج جامعية معتمدة معفاة من ضريبة الخدمة. جاء هذا الحكم بعد نزاع طويل بدأ عندما لاحظت مصلحة الضرائب وجود فرق كبير بين الإقرارات الضريبية للجمعية وإجمالي إيراداتها المعلنة. طالبت المصلحة في البداية بمبلغ 1,762,641 روبية، وبعد سلسلة من الطعون والاستئنافات من كلا الطرفين، حسمت المحكمة القضية لصالح المؤسسة التعليمية، معتبرة أن تقديم التعليم المهني المعتمد يندرج ضمن الأنشطة التعليمية المعفاة. يوضح هذا الحكم حالة عدم اليقين القانوني التي تعمل في ظلها العديد من المؤسسات التعليمية الخاصة.
نحو حلول مستدامة وتجارب دولية
لمواجهة هذه الأزمة، تنظر الهند إلى عدة حلول مقترحة وتستلهم من تجارب دولية ناجحة. فنلندا، على سبيل المثال، تحتل مراتب متقدمة في استطلاعات “بيزا” الدولية دون الاعتماد على الدروس الخصوصية. وفي عام 2021، حظرت الصين الدروس الخصوصية الربحية في المواد الأساسية لتخفيف العبء عن الأسر. أما سنغافورة فقد نجحت في إصلاح نظام الامتحانات للتركيز على تطبيق المفاهيم بدلاً من الحفظ والتلقين.
وتشمل خارطة الطريق المقترحة للهند ما يلي:
-
تعزيز المدارس الحكومية: من خلال الاستثمار في البنية التحتية، والفصول الدراسية الرقمية، وتنمية قدرات المعلمين، وتوسيع نطاق النماذج الناجحة مثل تجربة “منهج السعادة” في دلهي.
-
إصلاح نظام الامتحانات: تقليل التركيز المفرط على درجات الامتحانات النهائية واختبارات القبول الأحادية، وتشجيع التقييم المستمر والشامل الذي يعزز التفكير النقدي، تماشيًا مع “السياسة التعليمية الوطنية 2020”.
-
تنظيم مراكز الدروس الخصوصية: فرض هياكل رسوم شفافة، وضمان كفاءة المعلمين، وتوفير استشارات للصحة النفسية للطلاب، وإنشاء آليات لمعالجة الشكاوى.
-
تحقيق العدالة والقدرة على تحمل التكاليف: عبر التوسع في المنح الدراسية ودعم المنصات التعليمية الرقمية المجانية مثل “DIKSHA” و”SWAYAM” كبدائل للدروس الخصوصية باهظة الثمن.
إن التحدي الذي يواجه الهند مزدوج: إعادة إحياء نظام التعليم العام لاستعادة ثقة المواطنين، وفي الوقت نفسه، وضع إطار تنظيمي واضح وعادل للقطاع الخاص المتنامي، بما يشمل جوانبه التعليمية والمالية والقانونية.