رجل "سلام" في رأي العديدين
عن عمر ناهز 93 توفي الرئيس التاسع لدولة اسرائيل، ورئيس وزراء ووزير دفاع وخارجية سابق، شمعون بيرس بعد صراع مع المرض في الاسابيع الاخيرة من عمره.
وفاته أدت الى "هزة" اجتماعية وسياسية في اسرائيل لان القيادة الاسرائيلية لم تترد في تشييع جثمانه باحتفال كبير اذ نعاه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في جلسة لمجلس الوزراء الاسرائيلي، كما ان رئيس اسرائيل روفين ريفلين قطع زيارته الى اوكرانيا عائدا الى اسرائيل للمشاركة في تشييع جثمان بيرس، الرئيس السابق.
وفود من أكثر من 60 دولة شاركوا في جنازته التي اقيمت يوم الجمعة 30/9/2016 في القدس، وفي مقدمتهم الرئيس الاميركي باراك اوباما، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل، ورؤساء العديد من الدول الاوروبية والافريقية، اضافة للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
في حفل التشييع القيت العديد من الكلمات التي تمحورت حول شخصية بيرس وادائه وعطائه، وجلده. ووصفوه بانه زعيم دولة، وزعيم دولي، وان اسرائيل فقدت احد مؤسسيها الكبار.
هناك من قاطع الجنازة، ومنها القائمة العربية المشتركة في الكنيست، وهناك من انتقد الرئيس عباس لمشاركته في هذه الجنازة، وانتقده كثيرين.
من هو بيرس في نظر جميع "الافرقاء" في المنطقة والعالم؟
زعيم قومي
بيرس زعيم قومي، وهو رجل سياسي ذكي وحكيم في نظر الاسرائيليين اذ انه كان السكرتير الخاص لمؤسس الدولة دافيد بن غوريون، وتولى مناصب رفيعة وآخرها منصب رئيس الدولة.
كان يعتبر "الوجه الجميل" لدولة اسرائيل، لان حزب العمل كان عضوا في الاشتراكية، وهو صاحب نظرية شرق أوسط اقتصادي واحد أو موحد، وهو الذي وقف وراء "اتفاق" اوسلو، وهو الذي اقنع رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحاق رابين بقبول هذا الاتفاق. وهو مهندس العديد من الاتصالات السرية مع قادة العالم العربي. وهو سياسي محنك كان يعمل على منع اية عزلة لاسرائيل على الساحة الدولية.
ومما أكد أنه زعيم قومي للاسرائيليين، هو حفل تشييع جثمانه اذ شارك فيه عدد كبير من قادة العالم، وكل الاحزاب الاسرائيلية، ما عدا العربية. ورغم الخلاف السياسي الكبير بين بيرس ونتنياهو الا ان الأخير اعترف بأن بيرس زعيم قومي، وحد الاسرائيليين في جنازته!
عدو لدود وذكي للفلسطينيين
رغم أن الرئيس محمود عباس شارك في جنازة بيرس، الا ان غالبية الشارع الفلسطيني وقفت ضد هذه المشاركة لانها اعتبرت وتعتبر بيرس عدوا لدودا، لاسباب عدة ومن أهمها:-
· هو مؤسس الدولة العبرية، وهو من شارك ايضاً في طرد وترحيل الفلسطينيين عن وطنهم الأم عام 1948.
· هو الذي اقنع فرنسا بتزويد اسرائيل بسلاح فرنسي متطور وخاصة طائرات "ميراج" التي كانت السلاح الفعال في حرب حزيران 1967.
· هو أحد أعضاء حزب العمل الذي احتل القدس العربية وقرر ضمها الى اسرائيل.
· هو الذي شجع على بناء الاستيطان، وهو عراب الاستيطان ولا يستطيع احد ان ينكر ذلك.
· هو من خطط لبناء مفاعل ديمونا النووي، ووفر المال اللازم لاقامته، وجعل اسرائيل دولة نووية في العالم بشكل عام، وفي الشرق الاوسط بشكل خاص.
· لم يقبل بتاتاً بحل الدولتين، اذ كان يعمل على "اذابة" وتدمير هذه الفكرة، مع انه أعلن مراراً القبول بها شكليا.. لانه يؤمن فقط بحكم ذاتي فلسطيني محدود.
· تولى منصب رئاسة الوزراء عام 1986، وفي العام 1995، لكنه لم يغير من سياسة الاستيطان والتوسع، ولم يُنه سياسة التسويف والمماطلة الاسرائيلية.
· في العام 1996، تحمّل مسؤولية ارتكاب الجيش الاسرائيلي مجزرة "قانا" في الجنوب اللبناني، اذ اطلقت قذائف على مدرسة ومواقع للامم المتحدة كانت تحتمي بها عائلات من الجنوب اللبناني.. وقد استشهد واصيب المئات من ابناء الجنوب اللبناني في هذه المجزرة البشعة.
· مثّل الدبلوماسية الاسرائيلية على الساحة الدولية، وكان منافساً قوياً وشرساً.
هناك اعتراف اسرائيلي بأن بيرس كان من الصقور، ولكنه تحول الى معسكر "الحمائم" لانه رأى في ذلك خدمة اكبر للوجود الاسرائيلي، ولتعزيز علاقاتها مع دول العالم، ويجب عدم نسيان ان حزب العمل كان محسوبا على الاشتراكية الدولية، لذلك كانت اسرائيل تشارك في المؤتمرات الدولية التي كانت تعقدها هذه الاشتراكية الدولية.
رجل "سلام" دوليا
اعتبر رجل "سلام" دوليا لعدة أسباب ومن أهمها:-
· كان مهندس اتفاق اوسلو، الذي حاول من خلاله اظهار انه يريد تحقيق سلام في منطقة الشرق الاوسط.
· سعى كثيرا للقاء قادة عرب سراً وعلناً، وكان يركّز حديثه على ضرورة تحقيق سلام.
· ايمانه بضرورة تواصل المفاوضات مع الفلسطينيين، وحاول خلال توليه منصب رئيس الدولة ان يفعل شيئاً، لكنه فشل نظراً لصلاحيات رئيس الدولة المحدودة جدا من النواحي السياسية والمصيرية.
· ادعى في مقابلة "حصرية" مع صحيفة الجروسالم بوست الصادرة باللغة الانجليزية في القدس ان من اكبر انجازاته بتوليه منصب رئيس الدولة هو منع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من توجيه ضربة عسكرية لايران عام 2012، وذلك لاعتقاده بأن هذه الضربة ستؤدي الى نتائج كارثية على المنطقة بأسرها. وطلب عدم نشر هذا الرأي الا بعد وفاته!
· شارك في صلاة مشتركة اقيمت في الفاتيكان الى جانب الرئيس محمود عباس برعاية البابا فرنسيس من اجل تحقيق السلام في منطقة الشرق الاوسط والعالم كله!
· طرح في العام 1986 فكرة اقامة دولة فلسطينية مستقلة في قطاع غزة كخطوة اولى على رئيس بلدية غزة الحاج رشاد الشوا (أبو زهير)، ولمدة عشر سنوات، وبعدها يتم ضم الضفة الغربية الى الدولة الفلسطينية، وقد رفضت منظمة التحرير الفلسطينية هذا الاقتراح، كما ان اسحاق شامير، نائب رئيس الوزراء وزير خارجية اسرائيل في تلك الحكومة الاسرائيلية التي ترأسها بيرس على أساس التناوب على الرئاسة مع شامير، رفض الفكرة ايضا. وقد كان هناك شبه قبول لهذه الفكرة بشرط تجميد الاستيطان في القدس والضفة الغربية خلال هذه الفترة الانتقالية من قبل شخصيات في الضفة الغربية والقطاع.
· شارك في العديد من المؤتمرات الدولية، وكان يدعي ان اسرائيل تريد تحقيق السلام في المنطقة.
· كان يؤمن بضرورة اقامة سوق مشتركة لمنطقة الشرق الاوسط، أي يؤمن بسلام اقتصادي.
· كانت علاقاته جيدة وقوية مع العديد من زعماء العالم. وكان "حلو" اللسان. واعتبر "حمائميا" مقارنة مع نتنياهو.
· له دور كبير في تحقيق اتفاق سلام ايضا مع الاردن، اذ كان الذراع الأيمن لرئيس وزراء اسرائيل اسحاق رابين.
شخصية فريدة..
كان بيرس يؤمن بمبدأ واحد التزم فيه وتمسك به طوال حياته، وهو ان "على اسرائيل وحدها تحديد مصيرها وحدودها وما هو لصالحها"، وكان ضد أي تدخل اجنبي في ذلك. وكان يؤمن ان لا حل للقضية الفلسطينية الا بعد الحوار، والمفاوضات، وان يكون للاردن ومصر دور في ذلك، اذ انه من مؤيدي فكرة "الكونديمينيوم" أي التقاسم الوظيفي مع الاردن، الا ان الاردن يرفض ذلك، ويُصّر على ضرورة اقامة دولة فلسطينية وانهاء الاحتلال قبل أي علاقة مع الضفة أو مع السلطة الوطنية الفلسطينية.
لم يُؤيد، كما ذكر سابقاً، اقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، بل هي تحت السيادة الاسرائيلية، وما يقوله لم يختلف عن نتنياهو.
مني بفشل عدة مرات، وخاصة في معارك انتخابية ولكنه بقي رئيسا لحزب العمل، ثم تنازل عن هذا المنصب لرابين، وبعد اغتيال رابين تولى رئاسة الحكومة، ولكنه فشل وهزم أمام نتنياهو في الانتخابات البرلمانية عام 1996. وكذلك مني بهزيمة أمام رئيس الدولة موشيه كاتساف الذي يقبع في السجن بعد ادانته بتحرش جنسي في انتخابات الرئاسة الاسرائيلية عام 2000!
وبعد أن تم التوصل الى اتفاق اوسلو، وبعد اغتيال رابين، اقام بيرس مركز "بيرس للسلام" الذي يهدف الى تعزيز التطبيع، والعمل المشترك بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي بدعم وتمويل من جهات دولية مانحة عديدة.
كان قارئا جيدا للكتب والمستقبل، والف العديد من الكتب، لم ييأس، اذ كان يواصل نشاطاته السياسية والاجتماعية بصورة دائمة، يرفض الاستسلام، أو الاحالة على التقاعد. وقد انيطت به مسؤوليات ومناصب عدة، لم يرفضها، بل قبلها. وكان رئيسا لعدة مؤسسات لحظة وفاته.
من الامر الايجابي عن بيرس انه لم يدخل دائرة الفساد، ورفضها، وكان نظيف اليد من الناحية السياسية والاجتماعية ولو انه اتهم بأنه ثعلب، وانه كان وراء الاطاحة برابين عام 1976 من خلال كشف حساب سري صغير لزوجة رابين في احد البنوك الاميركية، وكان القانون يمنع ذلك.
وحدة "وطنية" لأيام
وفاة بيرس حققت وحدة وطنية على الساحة الاسرائيلية لايام محدودة، اذ شارك جميع القادة الاسرائيليين في حفل تشييع جثمانه.. وكانت هذه الوحدة ضرورية امام الجمع الكبير من قادة العالم الذين حضروا للمشاركة في تشييع جثمانه، وضرورية أمام حدث كبير.
لقد كان بيرس عدوا وخصماً سياسياً لحزب الليكود، ولكنه عبر وفاته ظهر انه زعيم كبير، لم يستطيع احد ان يقلل من ذلك، فبوفاته وحد الجميع لفترة زمنية قصيرة، ولكن هذه الوحدة سرعان ما تلاشت بعد ان انتهت مراسم التشييع وعودة قادة العالم او مندوبيهم الى بلادهم.
اسرائيل كرمّت رجلا ضحى من اجلها، مارس السياسة الثعلبية، وحقق ما اراده، وهو اعتراف "العرب" بوجود اسرائيل، والهرولة لتطبيع العلاقات معها..
نتنياهو يجني ما زرعه وعمله بيرس.. ولكن هل استغلال ثمار بيرس سيكون بالشكل الصحيح في ظل استمرار احتلال شعب كامل، ورفض تحقيق سلام شامل عادل ودائم!