مواقفه الوطنية وعلاقاته الواسعة وانجازاته الروحية والعمرانية
هي خير شاهد على عطائه المميز وحنكته الكبيرة
مع بداية فصل الربيع رحل الرجل البار، العالم، الانسان، المعلم، الكاتب، الاديب، الفقيه، العظيم في أعماله، الأب الحنون، الحكيم، المتواضع، الكريم، الخلوق، ومع رحيله اهتزت الكنيسة حزناً وفرحاً في آن واحد، حزناً لفراقه ولرحيله الجسدي عن هذا العالم، وفرحاً لأن ملكوت السماوات استقبلته مرحبة بقدومه لينضم إلى قائمة القديسين والابرار في رحاب الملكوت العظيم، انه قداسة البطريرك زكا الاول عيواص، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الارثوذكسية في العالم أجمع، وذلك بعد مواجهة شرسة مع المرض لعدة سنوات، وقد ودع هذا العالم في المانيا، في مدينة كيل أثناء العلاج، ولكن فكره وعقله وقلبه كانوا متواجدين في الشرق، وفي سورية أم الحضارات، مقر كرسيه الرسولي الاول.
لقد عمل البطريرك العظيم زكا عيواص بصمت وبجهود كبيرة غير منظورة، وما أن اعلن عن وفاته حتى بدأت تتكشف عظم انجازاته وعطائه المميز للكنيسة السريانية في العالم كله. واقامة الصلوات على جثمانه الطاهر في المانيا وبيروت ودمشق لهي أكبر دليل على عظمة هذا الرجل ومكانته الكبيرة ليس فقط بين السريان، ولكن بين كل أبناء الشرق، وبين الكثيرين من كبار رجال الدين في العالم كله، لأنه كان مدراً في العطاء، وسخياً في جهوده المبذولة الكبيرة من أجل الكنيسة التي أحبها وأحبته.
مواقف وطنية جريئة
لقد كانت لقداسته مواقف وطنية جريئة، إذ أنه الزعيم الديني الوحيد في العالم الذي وصف يسوع المسيح بأنه "سوري"، وقد قامت الدنيا حينها، ولكن في النهاية عرفوا أن ما قاله هو سليم وصحيح، لأن هذه المنطقة كلها كانت بلاد الشام، فقد ولد المسيح (له المجد) في بيت لحم رغم اقامة أمه في الناصرة لأن والي سورية أصدر أمراً بأن يكتتب كل واحد في مدينته، فالمسيح سوري الجنسية حقاً وحقيقة.
وكان على علاقة جيدة مع الرئيس الخالد حافظ الأسد، وكذلك مع ابنه الدكتور بشار الأسد، إذ أن قداسته أحب سورية كثيراً، وكان يقول في كل المناسبات أن الحرية الحقيقية للعرب المسيحيين هي في سورية إذ أن الجميع متساوون في المواطنة. وقد وقف ضد الارهاب، وضد العنف، وضد ما تعرض له العرب المسيحيون في العراق مما ادى الى هجرتهم للخارج، لذلك كان قلقاً على الوجود العربي المسيحي في هذه الديار.
ورفض قداسته وجود مسيحية متصهينة، والقول أن هناك مسيحيين متصهينين، فالمسيحي الحقيقي لن يكون صهيونياً، واذا أصبح أي انسان صهيونياً، فهو لن يكون ولن يبقى مسيحياً.. وكلمة "المسيحية الصهيونية" بدعة، لا يعترف قداسته بوجودها بتاتاً.. ويؤكد أن المسيحية هي مسيحية تؤمن بالمسيح وبكل أعماله وتعاليمه، ولا تؤمن بغير ذلك.
علاقات متينة مع كل الكنائس
امتاز قداسته باقامة افضل العلاقات القوية المتينة مع كل قادة الكنائس في العالم. وقد بدأ بتعزيز العلاقة بين قادة الكنائس الارثوذكسية الشرقية: السريان والاقباط، والارمن والاحباش. وقد عقدت لقاءات دورية بين بطاركة الكنائس الثلاث السريانية والقبطية والأرمنية، وكان يتم، خلال كل لقاء، تعزيز وتمتين العلاقة الأخوية والروحية بين هذه الكنائس. وقد وقع قداسته العديد من الاتفاقات مع قادة الكنائس في العالم، وخاصة اتفاق الشراكة الروحية مع البابا بولس يوحنا الثاني اوائل الثمانينات، واتفاق وحدة وشراكة مع البطريرك الراحل اغناطيوس هزيم، ومع الكنيسة الانجليكانية، والكنيسة اليونانية والكنيسة القبرصية. وقد انتخب وعن العائلة الارثوذكسية الشرقية رئيساً لمجلس كنائس الشرق الأوسط، وكذلك رئيساً لمجلس الكنائس العالمي.
وخير دليل على علاقاته الجيدة مع القادة الروحيين في العالم وفي الشرق أن جميع بطاركة الشرق شاركوا في مراسم الصلاة على جثمانه في بيروت نذكر منهم: بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي، البطريرك بشارة الراعي، بطريرك الكنيسة المارونية، وبطريرك السريان الكاثوليك يوسف يونان، والبابا تواضرس بابا الاسكندرية للاقباط الارثوذكس، وبطريرك الارمن في لبنان، وبطريرك الأرمن الكاثوليك، وحضر المراسم ممثلو البطاركة في العراق من اشوريين وكلدان، وكبار المسؤولين في لبنان من رئيس الجمهورية، الى رئيس الحكومة، الى رئيس مجلس النواب عبر حضور متدوبين عنهم.
وقد حضر مراسم الصلاة على جثمانه في دمشق مندوبون عن رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد، وعن نائب الرئيس الدكتور فاروق الشرع والعديد من الوزراء وأعضاء مجلس الشعب. وغطى التلفزيون السوري عبر الاخبارية السورية استقبال جثمان قداسته في دمشق، والصلاة على جثمانه، ومراسم الجنازة التي حضرها مندوبون عن الدولة السورية، أي أن وسائل الاعلام السورية الرسمية غطت هذا العرس الجنائزي الحزين على مدار يومين كاملين، ولم يحظ بمثل هذا النقل أي زعيم ديني مسيحي في تاريخ سورية. وقد نعاه وزير الأوقاف السوري بالنيابة عن اتحاد علماء الشام ووصفه بقامة دينية عظيمة، وأكد أن قداسته أحب سورية وهي أحبته أيضاً. وخير دليل على ذلك ترك وصية بأن يدفن في دمشق وفي معرة صيدنايا الصرح البطريركي العظيم الذي يتضمن اكليريكية وكاتدرائية، ومركز للاجتماعات وعدة أبنية للراهبات وكذلك للضيافة على أرض تصل مساحتها الى حوالي مائة دونم وأكثر.
بناء روحي مهم
لقد رفع قداسته شعار "البناء الروحي" للكنيسة إذ أن في عهده تم رسامة العديد من الرهبان والمطارنة، أكثر من 60 مطراناً منذ 14/9/1980، وحتى وفاته يوم 21/3/2014 وكان حريصاً على توفير البعثات الدراسية للكهنة لمتابعة الدراسة الجامعية العالية في روما، واليونان وايرلندا، والولايات المتحدة، لانه كان يؤمن بالبناء الروحي، وفي عهده كان عدد الكهنة كبيرا إذ عندما استلم دفة القيادة كان عدد الرهبان أقل من عدد المطارنة.
وقد تابع قداسته شؤون ابناء الكنيسة في اوروبا إذ أنه علم بحاجة المؤمنين الى رعاة قريبين منهم، فتم تقسيم اوروبا الى عدة نيابات بطريركية: بريطانيا، فرنسا وبلجيكا، المانيا، هولندا، والسويد، (نيابتان)، وكذلك وفر مطارنة نواب بطريرك في كل من تركيا (4 مطارنة هناك)، وفي كل من البرازيل والارجنتين واستراليا، واميركا الشمالية ثلاث نيابات، وهذه القرارات جاءت من اجل ابقاء أبناء الكنيسة السريانية متمسكين بها، وقريبين منها وهي قريبة منهم.
عهد ذهبي
يمكن القول أن عهد قداسة البطريرك زكا كان العهد الذهبي للكنيسة السريانية استمر 34 عاماً إذ تواصل فيه البناء الروحي والمعماري أيضاً. وكان البطريرك كريماً وسخياً ورجلاً متواضعاً. وقد شرفني اللقاء به عشرات المرات، وكانت اللقاءات مفيدة اذ كان يستمع فيها، وكذلك يعطي النصائح.. وكان متواضعاً وكريماً، وانسانا رائعاً رحل عنا ونحن بأمس الحاجة اليه في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها ابناء سورية نتيجة ما تتعرض له من ارهاب وظلم.
لقد أحب فلسطين وكانت قرة عينه، ولم تَخل أية عظة من عظاته في عيدي الميلاد والقيامة من الاشارة للقضية الفلسطينية والوقوف الى جانبها، والى جانب الشعب الفلسطيني مدافعاً عن حقوقه العادلة والمشروعة.
لقد رحل وهو قامة عظيمة لن ينساها السريان وكل من عرف والتقى قداسته. وكل الأمل والثقة في أن يتولى القيادة من يسير على درب قداسته ليواصل مشوار الازدهار والعصر الذهبي للكنيسة السريانية الارثوذكسية العريقة.
(جاك)